السدود وتوزيع المياه بواد مزاب

السدود وتوزيع المياه بواد مزاب(01)

Icon 08

من الأدلة الحية على روح التنظيم التي كان يتمتع بها المزابيون منذ أول نزولهم هذا الوادي، تلك السدود التي أقيمت على فروع الأودية أو الروافد التي تصب في وادي ميزاب أو التي أقيمت على وادي ميزاب بالذات.

هذه السدود والمواقع التي بنيت فيها، والمواد التي استعملت فيها، ومقدار الجهد الذي بذلوه في تشييدها، كل ذلك يدل دلالة صادقة على مقدار ما كانوا يتمتعون به من روح التنظيم والتضحية، ولقد كانت معلوماتهم الهندسية تقتضي أن يوائموا بين مجري الماء من ناحية وبناء المساكن في الغابات لئلا تتضرر هذه المساكن بسيل الأودية، وهذا كان يستدعي منهم نظرة شاملة لمجموع المساكن ومراعاة مجاري السيول، حتى في حفر الآبار وتأسيس القرى، مما يدل على أن هذا الأمر لا دخل للصدفة فيه، فإذا أخذنا مثلا لذلك سد العطف ورأينا كيف أنهم جمعوا واديين في سد واحد فلو أهم بنوه مثلا في غير المكان الذي هو فيه في "أَمَعْذُورْ" مثلا لفاتهم ماء "أَوْلَوَالْ" ولو أنهم بنوه في مجرى "أَوْلَوَالْ" لفاتهم واد مزاب، ولكنهم جمعوهما كما نرى، ثم ننظر الكيفية التي بني بها أو قل الطريقة، فنراه لا يعترض السيل بل جاء في أضيق مكان بين جبلين من جهة، وكان متجها محاذيا للوادي لا معارضا له، وإذا رأينا إلى عرض الجدار والدكاكين التي وراءه وهي الآن مطموسة ورأينا "لَمْنَافَسْ" وهو قسم من السد ولكنه أقل ارتفاعا منه، فيتركون الماء يتنفس أي يسيل إلى ما وراء "أَحْبَاسْ"، فإذا جاءهم الخبر من غرداية وهي الناحية التي يأتي منها السيل ربطوا هذه المنافس بأكياس من الرمل مملوءة تجعل کالمتاريس بعضها فوق بعض حتى يصلوا إلى مستوى ارتفاع السد، وهذا يزيد قسما مهما من الماء المخزون.

"أحباس أجديد" أو "سد آت يزجن" يمتاز بهندسته البديعة وهو يستقبل میاه سیل "واد انتیسه" خاصة مع هطول الأمطار الموسمية.

وإذا عرفنا أن كل هذا يقع تطوعا لشتاء واحد، وإن كانت تسبقه استعدادات، تبين لنا ما تمتع به هؤلاء الأفراد من آيات البطولة والتضحية، وكان غير القادرين يسهمون بالتمر ولاسيما الشيوخ العجزة، وكان العزابة يشاركون بمجهودهم وبقسم من تمر المسجد، وقد يخرج المتطوعون إلى رؤوس الأودية البعيدة مثل ما وقع مرات في ميزاب وفي القرارة، إذ خرج سبعون متطوعا ومعهم دوابهم وأقواتهم وأسلحتهم وساروا مسافة أيام إلى ضاية كان السيل إذا بلغ فيها غارت میاهه هناك وانقطعت بالتالي عن مجراها وتُحرم البلدة من جراء ذلك، فقرروا الخروج وبناء ما أغلقوا به مداخل هذه الضاية وأظن أنها تسمى "تَالَمْزَا" بالتفخيم ومعناها مأخوذ من الابتلاع، وقد ردوا الوادي إلى مجراه الطبيعي، وقد تبادلوا في كل ثلاثة أسابيع ودامت الأعمال أكثر من ثلاثة أشهر، وقد بنوا هنالك أفران الجير وجمعوا لها الحطب والحجر وصنعوه هناك، كما وقعت حملات تطوعية بعيدة عن المدينة أو القرية لرد رافد من الروافد إلى الوادي، وهذا كثير لا يعد في مثل هذه اللمحة الوجيزة، ويقول بعض الناس أنهم يجمعون أكثر ما يمكن من نوى "دقلة نور" ويخلطونه للحصباء والجير ولا نعرف حكمة ذلك إذا صح هذا الخبر.

أما اختيار نوى الدقلة فمعروف، لأنه نوی حاد الطرفين إذ لا يصلح للعلف وهذا معروف، أما حكمته في البناء فلا نعرفها والله أعلم، وكل ما ذكرناه فهو ما وقع منذ أقدم الأزمنة أما بعد الاحتلال الفرنسي فقد استمر الناس في التطوع ولكن الدوافع الخيرية تتناقص من ناحية، وازدياد الهجرة وارتفاع مستوى الأرباح جعل الناس يتخلفون ويدفعون أجر عامل كلما نودوا للعمل، ومع كل هذا نرى هذه الروح التطوعية جلية في كل الأعمال التي ينادي بها في المساجد، سواء كان ذلك العمل في خدمة المسجد ومرافقه أو حفر بئر للناس أو تسویر مقبرة من المقابر، أو إصلاح ورصف شارع من الشوارع، إلى غير ذلك من مئات الأعمال التطوعية الجادة التي لو عددنا المشاريع التي بنيت من طريقها لطال بنا الحديث ولعلنا سنعود للموضوع في فصل منفرد به ولا تزال إلى يومنا هذا بقايا من هذه الروح.

أما توزيع المياه فهي طريقة عجيبة لاشك أنها تدل على عقول مخترعيها ومعرفتهم، ولكل قرية من القرى اسم لمخترع هذه الطريقة الدقيقة من التوزيع العادل لماء المطر، ولا نستطيع أن نذكر المبتكر منهم للطريقة ولكن حسبنا أن نشير إلى أسمائهم ولربما استطعنا بعد البحث أن نتوصل إلى المخترع الأول لهذه الطريقة أو الذي نقلها من بلد إلى آخر عبر میزاب، وإن كنا لم نر هذه الطريقة في إحدى الواحات المجاورة التي رأيناها في الصحراء، فمن السهل جدا أن نقسم المياه الحية الجارية لأننا على الأقل نراها ونعلم مقدار قوقا وغزارتها، ولكن ليس من السهل أن نقسم مياه أودية لا تسيل إلا في فترات متباعدة تقسيما عادلا يأخذ القريب من مدخل الوادي ما يأخذه البعيد كل حسب مساحته من الأرض بدون أن يكون هناك حيف، وهذا العمل يزيد إعجابنا به كلما عرفنا مقدار الصراع الذي عرف به ناس الصحراء على الماء، ومن المعلوم أن هذا التقسيم ينفع ويعظم خطره إذا كان السيل ضعيفا، أما إذا كان السيل جارفا فلا تكون له القيمة النادرة، أما إذا كانت كمية الماء قليلة فرأيت الناس يشاهدون عدالة هذا التوزيع، فهنا محل الاعتراف لهذا العقل العالم الجبار، ويقال أن واضع تنظيم غرداية هو الشيخ "حمو والحاج" وهو غير جد آل الناصري، وحيث أن هذا الشيخ عاش في القرن الحادي عشر هجري ولعله كان محددا للتوزيع، وقد يكون هناك من سبقه فلا يمكن أن تعيش غرداية خمس قرون بدون تنظيم للمياه، أما في العطف فإن مجري "لآيت مزاب" قسمه الشيخ "بابه دادي" وهو من عشيرة "آت حريز" من "آل عبد العزيز"، وهذا ما حضرني الآن من الأسماء لعلنا سنجد أسماء أخرى حتى نستطيع تحقيق الأسبق منهم رغم قلة ما نملك من الوسائل.

لقد أبدع الأسلاف في حفر هذه الأثلام والأخاديد على الجبال الصخرية فبعثوا الحياة في واحات مزاب الجرداء، ولا يدري أحد كم استغرق عملهم الشاق والمضني من الوقت ومن الجهد فوق هذه الجبال الصخرية القاسية، إنه دون شك الإيمان بالله وإرادة الحياة..

إن حقوق کل جار محفوفة حسب التنظيمات والقوانين الشرعية، وبحسب "اتفاقيات المجالس العامة للعزابة" ويكون السهر على مراقبة هذه الأنظمة من طرف "أمناء السيل" فالفتحات المفضية للأجنة مقيسة ومحددة بحسب المساحة وعدد النخيل أو المزروعات.

وطبيعي أن هذه التقسيمات قد طرأت عليها طيلة هذه العهود بعض التحسينات، وإن كنا لا نعرفها على وجه التدقيق فإن الخبرة في شؤون المياه كان ولا يزال متوارثا يتعلم فيه الصغير على الكبير من القواعد والأعراف والقوانين ما يستطيع أن تحل به كل هذه المشاكل، وسمعت أخير أن الأستاذ الحاج سليمان بومريقة وهو من الطلبة الجادين ومن زملائنا في معهد القرارة ومن مدينة غرداية قد سجل بقلمه كل قوانين التوزيع المادي وكل ما يتعلق بذلك من أعراف واتفاقات بارك الله فيه وأفاد الجميع بمجهوده إنه سميع الدعاء.

----------------------- 

(01) كتاب الشيخ القرادي الحاج أيوب إبراهيم رسالة في بعض أعراف وعادات وادي ميزاب. ص51-56.

المصدر nir-osra.org

Tags: حضارة, الفلاحة والري