مزاب التجربة اليوتوبية

c 7وادي مزاب التجربة اليوتوبية الإسلامية الوحيدة المستمرة

اليوتوبيا: المدينة أو الجمهورية الحلم التي طالما راودت خيال الفلاسفة والمصلحين منذ مدينة أفلاطون الفاضلة التي أوضح أسسها في كتابه “الجمهورية”. اليوطوبيا أو الطوبى( بالإنجليزية: Utopia) هو مفهوم فلسفي يعني المكان الذي يبدو كل شيء فيه مثاليًا ولا توجد فيه أي نوع من أنواع شرور المجتمع كالفقر والظلم والمرض.

 

ظهر هذا المفهوم لأول مرة في كتاب اليوتوبيا واسمه الكامل: (De Optimo Reipublicae Statu deque Nova Insula Utopia) من تأليف السير توماس مور. الذي طبِع لأول مرة باللغة اللاتينية عام 1516م. ويدل المفهوم على الحضارة أو المكان المثالي، وبالأخص في الجوانب الاجتماعية والسياسية وغيرها. ويتألف اللفظ من كلمتين في اللغة اليونانية هما “οὐ” (لا) و”τόπος” (مكان)، أو “المكان غير الموجود”. وأخذ مور أفكار مدينته من كتاب الجمهورية لأفلاطون.
وتطلق صفة يوتوبيا أيضا على الأفكار المثالية التي لا يمكن تطبيقها في المجتمع، نظرًا لبعدها عن الواقع الحقيقي.
وهناك كتب كثيرة تحدثت عن دول ومجتمعات مثالية منذ كتاب الجمهورية. حيث أصبحت منذ ذلك الحين حلما للبشرية ولكن يبدو أن الحلم لم يتحقق إلا في وادي ميزاب.

تعرضت تجربة وادي ميزاب لتعتيم إعلامي مستمر، لأنها تشكل إدانة حية لكل دولة من هذه الدول التي تدعي الإسلام، بل ولكل الحركات والأحزاب الإسلامية التي لم تتمكن من الاقتراب من روح الإسلام ومقاصده. ولذلك يجري استبعادها وإغفالها بحجة أن الإباضية مذهب من مذاهب الخوارج، في حين أنه يتوفر في مذهب الإباضية كثير من جوانب الاعتدال في عقيدتهم، وهم وإن نسبوا إلى الخوارج إلا أنهم يرون أنهم وحدهم الذين حافظوا على تعاليم الإسلام الحقَّة، ويغضبون كثيرًا حين يسمعون أحدًا ينسبهم إلى الخوارج، ويبرءون من تسميتهم بالخوارج ويقولون: نحن إباضية، كالشافعية والحنفية والمالكية، ويقولون: إنهم رُمُوا بهذا اللقب لأنهم رفضوا القرشيَّة، أي التزام كون الإمام من القرشيين.

والإباضية في عمان بنوا دولة رشيدة استوعبت مئات الألوف من الأفارقة ذوي الأصول العمانية يعيشون في ظلها مواطنة متساوية كاملة الحقوق، دون تحفظات أو تمييز، فليست هناك درجات للمواطنة، أو جوازات سفر ودفاتر هوية متباينة الألوان، كما لا تعرف عمان ظاهرة البدون المخزية. ولا غرو فقد كان الإباضية عبر التاريخ رافضين أقوياء للظلم والانحراف بالدين والحكم إلى التظاهر والزيف.

وهناك ترابط تاريخي بين عمان وحضرموت، وصلات تاريخية بين قبيلتي الأزد العمانية، وكندة الحضرمية، وهي علاقات عقدية وسياسية وفكرية كانت قائمة بين إباضية عمان وحضرموت، ويطول الحديث عن الأرضية الاجتماعية والتركيبة السياسية التي ألقت بظلالها على الواقع ومهّدت لقبول آراء الإباضية، حتى قويت شوكتها في مطلع القرن الثاني الهجري وقادت أول ثورة إسلامية خرجت عن الحكم الأموي حين رأى عبد الله بن يحيى الكندي والملقّب بطالب الحق (قتل سنة 132هـ) باليمن جوراً وعسفاً شديداً وسيرة في الناس قبيحة فقال لأصحابة لا يحل المقام على ما نرى ولا يسعنا احتماله والصبر عليه، وانطلق بثورة الإباضية من حضرموت نحو عموم اليمن واكتسح اليمن والحجاز وسلخهما عن حكم الأمويين قوة، وقد رافقت ثورته أطروحات سياسية مهمة وغنية بالدراسة تبلورت في خطبه من على منبر جامع صنعاء، وفي خطب قائده العسكري الاباضي أبي حمزة المختار التي ألقاها في مكة والمدينة.

(1)

أسّست أول مدينة في الوادي وهي مدينة العطف عام 402 للهجرة أي منذ أكثر من ألف عام. وأسلوب العيش ونظام الحياة الذي اتّبعه الميزابيون ينطلق من نظرة ثاقبة لأسباب ودواعي الفساد الاجتماعي بكل صوره، وقد تمكّنوا بشكل يدعو للإعجاب الشديد من القبض على العوامل الأساسية، ومن ثم قاموا بالتركيز عليها على اعتبار أن تجنّبها يؤدي حتما إلى انتفاء كل الظواهر الثانوية وتغييبها.
ويمكن تلخيص الفلسفة الميزابية لبناء المجتمع الفاضل بأنّها قائمة على المساواة والعدل والإخاء من جهة، والرشد والاعتدال من جهة أخرى، وجعلها واقعا صلبا معاشا في حياة جميع أفراد المجتمع. مع الحرص على ارتباط أعضاء المجتمع بالعقيدة والتزامهم بتعاليمها وشعائرها.
وتتجلى مفردات هذه الفلسفة في جميع جوانب الحياة في مدن وادي ميزاب. ويسهر على تطبيق هذه الفلسفة مجلسان منتخبان أحدهما للرجال والآخر للنساء، ويضم كل مجلس اثني عشرا عضوا من الرجال والآخر نفس العدد من النساء. ويسمى كل من المجلسين بمجلس العَزَّابَة.
ويبدأ الأمر من تخطيط المدينة الميزابية التي يحتل المسجد مركزها. وأول ما يشد انتباه الملاحظ للمدن الميزابية توضّعها على روابٍ (هضاب) ، ويرجع ذلك إلى الظروف الأمنية الصعبة التي عاشها الميزابيون في ذلك الوقت، إذ كانت بلادهم تقع في منطقة جيرانها يعتمدون على النهب والسلب في حياتهم.
في أعلى تلك الربوة، يتموضع المسجد، متوسطا المدينة، واختيار المِيزابيين هذا الموقع لإقامة المسجد دليل على أهمية وظائفه المتعددة، فهو بجانب وظيفته الدينية، يلعب دور قاعة الاجتماعات الهامة والمركز العلمي للمدينة ومخزن المؤن، والمركز الدفاعي للمدينة، إذ نجده في المدن الميزابية محصنا ويصعب الوصول إليه.
يراعى في مساجد ميـزاب البساطة والتقشف والابتعاد عن كل ما قد يشغل المصلي عن الخشوع في عبادته، حتى المحراب فإنه خال من أي زخرفة، حتى في المساجد المبنية حديثا التزاما بتعاليم الشرع الإسلامي كما يرون.
و من أهم مميزات المسجد الميزابي، المئذنة، التي يتخذها المزابيون عادة رمزا لهم نظرا لتميّزها، و قد اختارتها الشبكة المزابية رمزا لها كذلك. وبجانب المسجد تقع الميضأة ومحاضر تعليم الصبيان، وفوقه المخازن، والسطح، ومقر اجتماعات العزابة الذي يسمى “تامنايت”.

ولكل مواطن في ميزاب لحقه ظلم من أي كان أن يغلق باب المسجد ويمنع الناس من الصلاة حتى يتم إنصافه ورفع الظلم عنه، وهو ما يبادر إليه الناس في الحال إن أمكن، وإلا استمهلوا المظلوم يوما آخر لإنصافه إن كانت المشكلة معقدة. ولذلك يقال انه لا يوجد في وادي ميزاب مظلوم. ولا يتأخر مكلف عن الصلاة في المسجد إلا إذا كان مريضا أو على سفر، فإن لم يعلم المصلون حاله بادروا أو بادر العزابة إلى زيارته ومعرفة حاله.

و تتدرج المساكن متلاصقة متلاحمة لا يعلو واحد على آخر على امتداد الربوة، حتى تنتهي بمجموعة أبراج دفاعية وسور مُـحصّن يحيط بكامل المدينة. هناك قواعد عامة وموانع في الفن المعماري المزابي أصدرها قديما مجلس عمي سعيد (نسبة الى سعيد الجربي) يلتزم بها كافة السكان، وتمثل تطبيقا لمفردة المساواة في الفلسفة الميزابية منها:
– أن علو الدار لا يفوق 15 ذراعا .
– لا يسمح بإقامة الجدار على حدود السطح من الناحية الشرقية أو الغربية له كي لا يحرم الجار من ضوء الشمس ضحى وعشية .
– لا يجوز إسناد الدرج إلى جدار الجار إلا بإذنه، و كذا المستراح أو مرابط الدابة إلا إذا سبق أحدهما الآخر، فلا حق للجار الجديد أن يلزم جاره بتغيير الوضعية السابقة.
– لا يحدث أحد نافذة مهما كانت مساحتها إلا برخصة من الجيران ليحددوا له المكان الذي يمكن أن يحدث فيه هذه النافذة أو الكوة.
– في كل مدينة يعيَّن أمينان في عرف البناء، ترفع إليهما الشكاوى فيما يتعلق بالبناء.

وفي المدينة الميزابية هناك نوعان من الدور: الدار الكاملة التي مساحتها نحو 100 متر مربع تقريبا. هناك عدد كبير من المنازل أقل اتساعا، وتسمى بنصف دار، مساحتها نحو 50 مترا مربعا.
إن بني ميزاب لم يشيدوا منزلا في أي مدينة من مدنهم، إلا وكان رئيس جماعة البلدة لا يمتاز عن سواه لا في ملبسه ولا في مأكله ولا في سكناه، وإن اتسعت داره فلكثرة عياله وذلك متاح للجميع عند كثرة العيال، فلا تتم أي توسعة أو أعمال في الدور إلا بإشراف مجلس العزابة وموافقته.

ولا تزال معظم المنازل الواقعة خلف سور المدينة المِـزابية محتفظة بنفس الطراز القديم السابق ذكره إلى الآن، سوى بعض التعديلات البسيطة التي أدخلت عليها حديثا، كالبلاط، والكهرباء والغاز، بينما تحتفظ البيوت الحديثة بأساسيات الطراز المعماري التقليدي إلى حد بعيد. وهذه المساواة في مساكن الأحياء تتجلى أيضا لدى ساكني القبور، وهو ما يثير التأمل في مجتمعات تدعي السلفية السنية وتعفي معالم القبور بصرامة، بينما الأحياء فيها تجدهم أقلية تسكن أفخم القصور (بعضها يكلف المليارات) وأغلبية تسكن في شقق تشبه القبور.
السوق هو المكان العمومي الوحيد بعد المسجد، الذي يمكن لأهل البلدة أن يجتمعوا فيه، ويتبادلوا الأخبار، ويتفقدوا أحوالهم يوميا، ويستريحوا من تعب العمل، بالإضافة إلى ممارستهم البيع والشراء. ويراعى في موقع السوق أن يكون خارج المساحات السكنية، وكلما اتسعت المدينة فإنه ينقل إلى مكان أبعد. ويشرف العزابة على السوق إشرافا لا هوادة فيه، ويحددون الأرباح ومن ثم أسعار كل سلعة، كما أنهم يحددون مايجوز تداوله وبيعه في السوق وما لايجوز، مراعين في ذلك القيمة الاستعمالية للسلعة ومانعين التوافه التي تضيع المال دون فائدة.

(2)

انطلق واضعو الأنظمة الميزابية من قناعة راسخة خلاصتها أن التطاول في البناء والتفاخر بالمقتنيات، هي وراء كل الشرور والأدواء التي تصاب بها النفوس. فمن جهة هناك التباهي والفخر والاستعلاء، ومن الجهة الأخرى هناك الحسد وإذكاء روح التنافس والحسرة التي تؤدي إلى الجرائم والبغضاء والإحن.

ويجمع مجلس العزابة الزكوات والصدقات، وينظم كفالة الأيتام والأرامل، والعاجزين عن الكسب، وعلاج المرضى، ومساعدة المحتاجين، ولذلك يقال أنه لا يوجد في وادي ميزاب متسول أو محتاج يعرض حاجته. ولا أرامل مضيعات أو أيتام مضيعون.

ولا تقام أعراس فردية في مدن الوادي بل أعراس جماعية يحدد مجلس العزابة مواعيدها وينظم الإنفاق عليها، كما يحدد المهور والهدايا المقدمة لكل عروس عند زواجها، بل ويمنع الرجل الحديث الزواج من تقديم أي هدية لزوجته عدا هدايا العرس وذلك لمدة عامين. والحكمة من ذلك أن اليتيمات يتزوجن أيضا في الأعراس الجماعية، ولا يريد المجلس لأي منهن أن يشعرن أن ما قدّم إليهن عند الزواج أو بعده أقل مما قدم للأخريات أو أنّ حفلات زفافهن أقل شأنا.

ولا يسمح المجلس للمغتربين بأخذ زوجاتهم إلى مغترباتهم، كما لا يسمح لهم بالتباهي بما جنوا من مال بالسيارات الفاخرة والملابس والعمارات، بل يطلب منهم تشغيل أموالهم في مشروعات صناعية في المدينة الصناعية التي أشرف المجلس على تحديد مكانها ومساحتها، فازدهرت مدن الوادي اقتصاديا بشكل كبير، وسلمت من الفتنة الأخيرة التي عمت الجزائر كما نجت من آثارها الاقتصادية الوخيمة.

لكل مدينة من مدن ميزاب واحة متفاوتة الاتساع، تحوي داخلها على مجموعة من المزارع والسدود و الآبار ومنشآت الري، وطريقة ريّ الواحات في وادي ميزاب تعتمد على حفر السواقي التي تملأها المياه الآتية من البئر ثم تصبّ في حوض مخصص لها بجانب البئر، ثم تنساب إلى الساقية الرئيسية عن طريق مجرى كبير في أسفل الحوض، ومنها إلى السواقي الفرعية التي تمر على كامل الغابة.

كما يمتاز ميزاب بطريقة خاصة لتقسيم مياه الوادي (في حالة الفيضان) بين أصحاب البساتين بالمساواة، حتى لا يأخذ أحد أكثر من حقه من مياه الوداي (نظرا لقيمة المياه في ميزاب)، وتتمثل الطريقة في إنشاء فتحة صغيرة أسفل جدار كل بستان، تنساب منه المياه إلى السواقي، ويتغير عرض الفتحة حسب مساحة كل بستان، وللفتحة غطاء حجري ينطبق عليها يمنع تغييره أو التلاعب بحجمه.

(3)

يقع وادي ميزاب في جنوب الجزائر في شمال الصحراء الكبرى في ناحية تسمى الشبكة وهي منطقة جميلة تتخللها أودية ويبعد ميزاب عن مدينة الجزائر بثلاثمائة وعشرين ميلا ونصف الميل (600 كيلومتر)، ويتكون وادي ميزاب من سبع مدن، خمسة منها متجاورة: وهي العطف، بنورة، مليكة، بني يزقن، وغرداية، واثنتان تبعدان عن المجموعة بعض البعد هما مدينة بريان التي تبعد عنها بأربعة وعشرين ميلا (50 كيلومتر) إلى شمالها الشرقي، ومدينة القرارة وتبعد عن أخواتها بأربعين ميلا ونصف الميل (100 كيلومتر) إلى الشرق.

والشبكة عبارة عن نجد من الجلاميد المكونة من الصخور الكلسية، تخترقها الأودية الضيقة تبلغ مساحتها 8000 كلم مربع على مسافة 110 كلم من مدينة الأغواط. وقد استطاع الميزابيون أن يحولوا تلك الجلاميد إلى بساتين ومزارع، ويؤسسوا بها المدن بدءا من مدينة العطف سنة 402 هـ. أي منذ أكثر من ألف عام.
لفظ ميزاب اسم آلة وزوب الماء أي انحداره وانصبابه، تماما كما يطلق اسم الميزان على آلة الوزن. وقد جرى تسمية أهل القرى السبع ببني ميزاب ذلك نسبة إلى ميزاب الكعبة.
والميزابي اسم تأهل له كل اباضي وهبي من آهل الدعوة ولو من عمان، وذلك أنهم كلهم يقفون في الطواف تجاه ميزاب الكعبة للدعاء ولا يقف في ذلك سواهم من آهل المذاهب الأخرى .

وهناك رواية أخرى تقول ان أصل كلمة مزاب إنما هو تحريف لاسم بني مصعب حيث بنيت مدن وادي ميزاب في باديتهم، فلفظ مزاب مجرد تحريف لأصل الكلمة: مْزاب أو: مُصاب فالإباضية، وفقا لهذه الرواية، لم يدخلوا إلى مْزاب إلا بعد سقوط الدولة الرستمية.
وأن بني مصعب هم من الأمازيغ وكان أغلبهم يعيش على تربية المواشي والتنقل بها عبر أرجاء الشبكة، بحثا عن الماء أو الكلأ، فكانت حياتهم في منتهى البساطة، شأنهم في ذلك شأن قبائل البدو في كل مكان. أما صناعتهم فكانت تقتصر على نسج الخيام و الألبسة من الوبر.

وأنه بعد سقوط الدولة الرستمية هاجر رعايا الإباضية والرستميين من تيهرت إلى وارجلان (ورقلة حاليًا) وسدراتة، وانعقد مؤتمر بمدينة أريغ سنة 421 هـ، للنظر في مسائل الرستميين اللاجئين، لأن أريغ قد غص بسكانه وباللاجئين، فأقر المؤتمر انتداب العلامة أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ليجول في صحراء المغرب الأوسط عله يجد ملجأ للرعايا الرستميين، فوقع اختياره على بادية بني مصعب، فبدأ أولا بالدعوة إلى المذهب الإباضي حتى اعتنقه جميع المزابيين متحولين من مذهبهم الاصلي وهو الاعتزال، حيث أنه عندما ظهرت المذاهب الفقهية سبقت إلى بني مصعب أصول المعتزلة فأخذوا بها وطبقوها وكانوا يسمون واصلية نسبة إلى واصل بن عطاء. والحال أن هناك أوجه شبه قوية بين أصول الاعتزال وأصول الاباضية كما سنراها لاحقا. ثم بدأت هجرة بعض العائلات من شعب تيهرت ( وهم أمازيغ ) وبعض ما تبقى من أفراد العائلة الحاكمة الرستمية إلى وادي مزاب.
إذن ووفقا لهذه الرواية فإن العلاقة بين الرستميين والمصعبيين هي أن الرستميين هم الذين أرشدوا المصعبيين إلى المذهب الإباضي، وأن المصعبيين هم الذين استقبلوا المهاجرين إليهم.

وتعتبر الإباضية أشهر الفرق التي تُنسَب إلى الخوارج؛ ذلك أنهم لا يزالون حتى يومنا هذا يسكنون في عُمَان وزنجبار وشمال إفريقيَّة. والإباضية هم أصحاب عبد الله بن إباض، وكانت لهم صولة في الجزيرة العربية، وعلى الأخصِّ في حضرموت وصنعاء ومكة والمدينة.
ولكنهم يغضبون كثيرًا حين يسمعون أحدًا ينسبهم إلى الخوارج، ويبرءون من تسميتهم بالخوارج ويقولون: نحن إباضية، كالشافعية والحنفية والمالكية، ويقولون: إنهم رُمُوا بهذا اللقب لأنهم رفضوا القرشيَّة، أي التزام كون الإمام من القرشيين.

وقد دخل مذهب الإباضية إلى إفريقية في النصف الأول من القرن الثاني، وانتشر بين البربر حتى أصبح مذهبهم الرسمي. وقد حكم الإباضيون في شمال إفريقيَّة حكمًا متصلاً مستقلاًّ استمر زهاء مائة وثلاثين سنة حتى أزالهم الفاطميون، أي أطول من الفترة التي استمرت خلالها الدولة الأموية..

تتفق عقيدة الإباضية مع أهل السُّنَّة في الكثير، وتختلف معهم في القليل، فهم يعترفون بالقرآن والحديث كمصدر للعلوم الدينية، ولكنهم يقولون (بالرأي) ويأخذون بالإجماع.
ولعل أهم خلاف بينهم وبين السُّنَّة قولهم بالتنزيه المطلق، فلا يقولون بالتشبيه؛ ولذلك فإنهم يقولون: إن رؤية الله منفية في الدنيا والآخرة. ويقولون أيضًا: إن الوعد والوعيد لا يتخلفان. بمعنى أن وعيد الله لا يتخلف، فمن دخل النار فهو خالد فيها، والمذنب تطهِّره التوبة، ولا يدخل السعيدُ النار. وواجب عندهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أمر ونهي يشتد على الأمير والفقير على السواء بل يشتد أكثر على الأمير، وليس بمعنى الضرب على يد العاصي والاغماض عن الخاصة كما يفعل مطاوعة الوهابيين.

(4)

إباضية وادي ميزاب هم نسل الإباضية الذين فروا بجلودهم بعد المذابح التي ارتكبها في حقهم الداعية الفاطمي أبو عبد الله الشيعي بعد تدمير دولتهم الزاهرة “الدولة الرستمية”.

يقول الشيخ مهنا بن راشد بن حمد السعدي: “لقد سمعنا عن الكثير من الدول الإسلامية التي نشأت وسقطت على مر التاريخ الإسلامي، كالدولة الأموية العباسية والعثمانية بالمشرق، والدولة المدارية والإدريسية والفاطمية بالمغرب، وغيرها من الدول الإسلامية الأخرى التي فصل التاريخ في ذكرها. وهذه الدول لها إيجابياتها ولها سلبياتها، وقد قدمت للأمة الإسلامية محاسن، إلا أنها كذلك لم تخل من المساوئ التي نجدها عند قراءة تاريخها، وهذه طبيعة البشر القصور عن الكمال.

إلا أن هناك دولا إسلامية قامت ونشأت واستمرت ردحا من الزمن إلى أن سقطت، وقدمت للأمة الإسلامية الشيء الكثير، وقد يكون ما قدمته يفوق ما قدمته الدول المشهورة والمعروفة عند الخاصة والعامة ومن هذه الدول من سار على نهج الخلافة الراشدة، وتطبيق مبدأ الشورى، سواء في انتخاب الحاكم أو في حكم الرعية. إلا أنه وللأسف الشديد لا نعرف عن هذه الدول الشيء الكثير، وإذا وصلنا شيء فهو نزر قليل لا يكفي للتعرف على جميع جوانب تلك الدولة والظروف التي عايشتها والخدمات الجليلة التي قدمتها للأمة الإسلامية، وكذلك لا يخلو من التشويه والتحريف والتعتيم على هذه الدول من قبل كتاب التاريخ يعود إلى عدة أسباب كالتعصبات المذهبية، والمصالح السياسية، والإغراءات المادية وما شابه ذلك من الأسباب التي ليس هذا محل ذكرها.

ومن هذه الدول التي يجهلها الكثير، دولة إسلامية عريقة نشأت في المغرب في سنة 160هـ، واستمرت إلى سنة 296هـ، أي أنها استمرت لمدة 136 عاما. وقد خدمت هذه الدولة الأمة في الكثير من الجوانب سواء في جانب التأليف ونشر العلم أو في الجانب الاقتصادي والاجتماعي أو في الجانب المعماري، وحتى في الجانب السياسي. وهذه الدولة هي الدولة الرستمية التي نشأت في المغرب الأوسط ـ الجزائر حاليا ـ على يد الإمام عبد الرحمن بن رستم”.

ويضيف قائلا: “وقد اشتهرت هذه الدولة بنظام الشورى المطبق فيها، وبعدالة أئمتها، وصلاحهم وتقواهم وعلمهم، وبازدهارها، وقد كان يعيش تحت ظلها أتباع كل المذاهب الإسلامية، وكانوا يمارسون عبادتهم بكل حرية وأمان، وكانت لهم مساجدهم وبيوتهم الخاصة التي يعيشون فيها مصانين الحقوق بعدل وإنصاف من غير تفريق بين مذهب ومذهب، قال ابن الصغير مؤرخ الدولة الرستمية: “… ليس أحد ينزل بهم من الغرباء إلا استوطن معهم وابتنى بين أظهرهم، لما يرى من رخاء البلد وحسن سيرة إمامه وعدله في رعيته، وأمانه على نفسه وماله، حتى لا ترى دارا إلا قيل هذه لفلان الكوفي، وهذه لفلان البصري، وهذه لفلان القروي، وهذا مسجد القرويين، ورحبتهم، وهذا مسجد البصريين، وهذا مسجد الكوفيين…” وقد كانت الدولة الرستمية مزدهرة اقتصاديا وثقافيا كما كانت منظمة في جوانب الحياة المختلفة.

يقول الأستاذ توفيق المدني عن الدولة الرستمية: “إنها كانت أول دولة إسلامية بربرية نشأت في هذه الديار – يعني الجزائر – ازدهرت ونمت ونالت شهرة عالمية واسعة”.
وكذلك يقول عثمان الكعاك “أن الدولة الرستمية كانت قوية عزيزة ذات بأس وسلطان، عاصرت بني الأغلب بإفريقيا (يعني تونس) والأدارسة بالمغرب الأقصى، وكانت الآمرة الناهية في بلاد المغرب الأوسط”. وتحدث عن أصول العقيدة عند الإباضية (التوحيد، العدل، القضاء والقدر، الولاية والبراءة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الوعد والوعيد .. الخ) وأهم المسائل الخلافية بين الإباضية والمذاهب الأخرى. والأصول السياسية للإباضية حتى بدت الإباضية حركة سياسية أكثر من أن تكون عقدية.

وعن المرأة في الدولة الرستمية يقول: “وكان للمرأة دور بارز في الدولة الرستمية، فأنجبت لنا الدولة الرستمية العديد من العالمات والمصلحات، كأمثال أخت الإمام أفلح، وأخت الشيخ عمروس، اللتان تعدان من عالمات الدولة الرستمية، ولا أدل على بروز المرأة في المجتمع الرستمي وانتشار العلم بينهن من كلام أحد أفراد الدولة الرستمية واصفا ذلك فيقول: “معاذ الله أن تكون عندنا أمة لا تعلم منزلة يبيت فيها القمر” هذا بالنسبة للإماء فما بالنا بالحرائر.

وقد ساهمت الدولة الرستمية مساهمة فعالة في نشر الإسلام في إفريقيا السوداء عن طريق ممارسة التجارة مع تلك المناطق التي لم تكن تعرف الإسلام قبل وصول تجار الدولة الرستمية حاملين معهم مشعل الهداية، ومن أمثال هؤلاء الدعاة التجار الذي أنجبتهم الدولة الرستمية علي بن يخلف النفوسي الذي كان السبب في إسلام ملك مملكة مالي وشعبه.

وقد امتدت حدود الدولة الرستمية في فترة من فتراتها الزاهرة من حدود مصر شرقا إلى مدينة تلمسان في أقاصي المغرب الأوسط غربا. وبعد هذا العمر المديد وهذه الإنجازات الضخمة التي قدمتها الدولة الرستمية للأمة الإسلامية، هجم عليها أبو عبد الله الشيعي داعية الفاطميين في سنة 296هـ، فدمرها وعاث فيها فسادا، وقتل أهلها، ولم يكتف بذلك، بل قام بإحراق مكتبة المعصومة بعد أن أخذ منها الكتب الرياضية والصناعية والفنية، فقضى بذلك على تراث عظيم من تراث الأمة الإسلامية فحسبنا والله ونعم الوكيل.”

(5)

العزّابة من أهم و أعلى و أشهر الهيئات الدينية و السياسية بميزاب، وهو نظام معقد يدل على إعمال فكر وحسن تدبير. والمكونون لهذا المجلس يعرفون في أوساط العامة من الميزابيين باسم: إِعَــزَّابَـــنْ، و الواحد منهم يسمى: أَعَــــزَّابْ، و هم يمثلون العلماء والأئمة وأهل الرأي والمشورة من الشعب، ويقوم المجلس بالإشراف الكامل على شؤون المجتمع الإباضي الدينية والتعليمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكلمة ”العزّابة” مشتقة من العزوب، عزب عن الشيء: أي بعد وغاب وخفي واعتزل، والمقصود هنا بالعزلة، التصوف والانقطاع إلى العبادة وخدمة المصلحة العامة، ويستعمل العزَّابة، النظام الإسلامي القائم على الشورى.

مجلس العزابة التي رتبها الشيخ أبو عبد الله محمد الفرسطائي. هي كما يلي:
أعضاء المجلس: لمجلس العزّابة حق اختيار أعضائها دون أدنى مداخلة من غيرها، حيث يُختار من كل عشيرة أعلم وأورع وأصلح من في العشيرة، بشترط أن يكونوا متخرجين من دار التلاميذ (جمعية الشباب والحراس) إرْوَانْ، فإذا لم يوجد، فإنه يختار من أصحاب المحاضر (إمصّوردا).

يتألف مجلس العزّابة من اثني عشر عضوا : الإمام والمؤذن وثلاثة لتحفيظ القرآن للصبيان في المحاضر وخمسة لغسل الموتى ووكيلان على مال المسجد (بيت المال). وهذا الأخير لا يجب أن يكون له مال كثير ولا أولاد كثيرون بل يجب أن يكون بينهما.

ويجب أن تتوفر في عضو العزابة الشروط التالية:
– أن يكون بالغا مسلمًا، ذو أخلاق فاضلة وعلم بالدين والفقه والفتوى.
– أن يكون حافظا لكتاب الله تعالى.
– أن يكون متزوجا، لأن الزواج يحصن النفس.
– أن يكون صاحب عمل أو حرفة، فأعضاء العزابة لا يتقاضون أي أجر، إنما عملهم خالص لوجه الله، وكلهم يعتمدون في قوتهم على كد يمينهم.

مهام المجلس:
ا- المهام الدينية (السلطة الدينية):
تتولى العزابة إصدار الفتاوى، و فض الخصوم، إذ أن الميزابيين، لا يلجؤون في أكثر الأحيان، إلى المحكمة في خصوماتهم، ومراقبة الذبح، وإصدار حكم البراءة، تعليم القرآن، وتعليم الصلاة للبالغين الجدد، وكل مايتعلق بالدين من بعيد أو قريب، والحقيقة أن العزابة في أوساط العامة من الميزابيين، لا تعرف إلا بالجانب الديني.

و في رحاب المساجد الميزابية، تزدهر حلقات العلم في شتّى الفنون، وتدوي بأصوات الوعظ والتذكير والتكبير وتتلى آيات الله البينات من الذكر الحكيم يوميا، كل ذلك تحت إشراف تام من العزابة.

مجلس عمي سعيد: (نسبة الى سعيد الجربي، من المساهمين في نشر المذهب الإباضي بميزاب، قدم من جزيرة جربة بتونس، و لازالت ذريته موجودة إلى الآن)، هو الهيئة التشريعية، يتكون أعضاءه من قضاة البلاد وعلمائها، ويختارهم عزابة المدن من بينهم، ويعتبر أعلى سلطة دينية واجتماعية، في وادي ميزاب كله، ورئيسه يسمى شيخ البلد، وهو بمثابة الرئيس، تعقد جلسة هذا المجلس كل ثلاثة أشهر، ويدرس فيه الوضع السائد في ميزاب.

و هذا المجلس يضع القوانين والأحكام القضائية في الجرائم والجنايات والمعاملات ضمن الفقه الإسلامي، وهو يعتبر من مجالس العزابة لأنه مكون منهم، لكنه لا يختص بمدينة أو بأخرى، لكنه يشمل ميزاب كافة، ومجموعة قوانينه المدونة تعرف باتفاقات وادي ميزاب. كما أن هذا المجلس هو الذي يحدد المكاييل والمعايير والموازين المستعملة في الأسواق بحيث لا يجوز التعامل بغيرها من المعايير، ومن يخالف أحد هذه القوانين من الميزابيين في أي مكان و ليس فقط في وادي ميزاب، فإنه يتعرض لحكم البراءة الآتي ذكره.

المهام الاقتصادية (السلطة الإقتصادية):
ترعى المجلس حياة الأسر الإقتصادية، وهي المسؤولة عن توزيع الزكاة، ولا تدفع الزكاة لأحد إلا إذا تحققت أنه مستحق حقا، وأنه مؤد لكل شعائره الدينية من صلاة وطهارة وصوم، كما أنها تشرف على نفقات الزواج وتحديد المهور، والنفقات في الكفالة والحضانة، وتقديم الأمناء على الأيامى واليتامى، بحيث لا يجد الأغنياء منطلقا لحرياتهم في التغالي بالمهور والنفقات على الطبقة الوسطى أو الفقيرة في الأمة، فحرياتهم مقيدة، ولا يجد الفقير الراغب في الزواج تحرجا في تحمل مؤونة زواجه.

كما تشرف هيئة العزابة على الأسواق العامة في مدن ميزاب، ولها فيها مقاعد خاصة محترمة، تجلس عليها للإشراف على الواردات والسلع المجلوبة واستقبال القوافل من أطراف الصحراء (قديما)، ومراقبة الأسعار، وكان رئيس العزّابة هو الذي يعلن عن افتتاح السوق بواسطة المنادي، بعد التكبير والبسملة والتهليل والصلاة على رسول الله (ص). فإن وقع تنازع أو مشادة في المعاملات بالسوق، فإن العزابة يتولون الفصل والحكم في الأمر.

في حالة تمرد العامة: في حالة ما إذا تمردت العامة على أمر من أوامر العزابة، فإن أعضاء العزّابة، يبقون في دورهم ويتركون المسجد، فلا أذان ولا إقامة ولا صلاة جماعة، وفي هذا الموقف تفزع العامة وترتجف، وتوفد إليهم وفدا طالبة إليهم العفو، وتعرف هذه الصورة بإغلاق المسجد، ولا تكون إلا نادرا، أو في أمور خطيرة.

في حال ما إذا حدث خلاف وتنازع وتشتت بين العزّابة أو صدر من المجلس (المجلس) خطأ خطير، تقوم هيئة: امصوردان بالاتصال بأعضاء العزابة وتحاول إقناع المخطئ بالحسنى، فإذا تعذر ذلك، فإنهم يعقدون مجلسا طارئا جدا، ويبحثون موضوع قلب النظام (العزابة)، فإذا اتفق على اتخاذ هذا القرار سبعون منهم، فإن قرار قلب النظام يكون نافذا.

و أول خطوة يقومون بها هي تعيين أعضاء جدد لمجلس العزّابة، وفي الليلة التي يريدون فيها تنفيذ العملية، يطوّقون المسجد بحراسة مشددة، ثم يحضرون العزّابة الجدد، فيسلمون لكل واحد منهم عمله، وذلك قبل الفجر، ويمنع العزابة القدامى من دخول المسجد ثلاثة أيام حتى تهدأ الأوضاع.

نظام الحراسة، جمعية الشباب (امسطوردان):
جمعية الشباب هي هيئة دينية علمية اجتماعية وجدت منذ القديم في وادي ميزاب تقوم بعدة أعمال خيرية شريفة من أبرزها الحراسة. تسميتها: اختلف الناس في تسميتها، وتوجد لها عدة أسماء كـ ”امسطوردان”، و”امصوودان”، و”امصوردان”، ووجود الألف والنون في آخر هذه الكلمات يدل على أن هذه الكلمات جمع، والمهم أن هذه الكلمات تؤدي كلها معنى واحدا عاما هو: الشباب، أو الحراس.

أعضاء الهيئة:
ينقسم الأعضاء إلى ثلاث طبقات هي: طبقة الصغار، وطبقة المتوسطين، و طبقة الكبار.
و لا يراعى في هذه الطبقات عامل السن، و إنما يراعى فيها زمن الانضمام إلى المؤسسة، و إجادة القيام بأعمالها، فالداخل إليها حديثا يعتبر من الصغار ولو كان متقدما في السن.

تنحصر مهمة الصغار في الانقياد التام والطاعة الكاملة، والقيام بكل الواجبات، ولهذه الطبقة رئيس، والرئيس هو الحلقة التي تربط بين الحلقة الصغرى والوسطى وعليه أن يبلغ رغائب طبقته إلى رئيس الهيئة الوسطى، وأن يبلغ التعليمات والتوجيهات من رئيس الطبقة الوسطى إلى طبقته.
أما طبقة المتوسطين، فتنحصر مهمتهم في تنفيذ الخطط التي ترسم لهم من طبقة الكبار، وهم الذين يُعتمد عليهم في الحراسة وفي جميع الأعمال الشاقة التي تستدعي مزيدا من الجهد والحذر والسرية.
أما طبقة الكبار: فهي أشبه أن تكون بمجلس إدارة موسع للهيئة، وعليها وضع الخطط، وترتيب الحراسة، وتنظيم الأعمال.

شروط الالتحاق بالهيئة:
يشترط لقبول عضو جديد في المؤسسة عدة شروط أهمها مايلي :
– أن يكون العضو قادرا على حفظ الأسرار محافظة كاملة، ومهما كانت الظروف.
– أن يكون حسن السيرة والأخلاق، وأن يشهد بذلك من يتوفر فيه هذا الشرط.
– أن يكون متزوجا، لأن الزواج يحصن الإنسان.
– أن يكون مقداما شجاعا لا يهاب الموت في سبيل الواجب، ولكنه في نفس الوقت لايترامى على الموت بدون مبرر.
– أن يكون موفور الصحة، يتمتع بالقوة والصلابة، ليس به أي مرض ظاهر.
– أن يكون ذكيا، لبقًا يحسن التصرف.
– لا يتقاضى العضو أية أجرة، بل يعمل عمله خالصا لوجه الله.

عندما يريد شخص أن ينضم إلى هذه المؤسسة، عليه أن يقدم طلبا بواسطة أحد أعضائها، وعلى ذلك العضو أن يقدم الطلب إلى رئيسه قبل أول جلسة مقبلة. وفي تلك الجلسة، يعلن الرئيس اسم العضو الجديد، ويطالبهم بإعطاء الرأي فيه، وبعد مناقشة تطول أو تقصر، يكلف الأعضاء بدراسة سلوك الشخص والمساءلة عنه ثمانية أيام، يجتمعون بعدها للبث في الموضوع، ويعبرون عن هذه الفترة بقولهم: (أَكْلِينْتْ السُّوقْ) ومعناها: رمَوه في السوق، أي وضعوه تحت المراقبة والدراسة، وبعد أن يجتمعوا بعد الأيام الثمانية، يطرح الموضوع للمناقشة الدقيقة، ويحددون صلاحيته للهيئة أو عدمها، ثم يُكلّف مقدم الطلب الأول بإبلاغ القرار للعضو بالرفض أو القبول.

إذا كان القرار بالقبول يحضر العضو الجديد في موعد محدد، ثم ينعقد اجتماع خفيف للمرة الأخيرة ويبقى فيه العضو الجديد ورفيقه في معزل عنه، فإذا لم يوجد في الاجتماع ما يغير القرار بالقبول، يدعى العضو الجديد ورفيقه، ويُعلن له أنه قُبل في المؤسسة، ثم يشرح له الرئيس واجبات العضو وأخلاقيات المؤسسة وخطوات العمل، وأسباب ترقي العضو من طبقة إلى طبقة، ثم يُطلب من العضو أن يعلن موافقته بالانضمام علنيا، ويعتبر بعد ذلك عضوا في الهيئة ويعتبر أصغر الأعضاء حتى ولو كان أكبرهم سنا.

مهام الهيئة:
– حراسة البلد والغابات وخاصة بالليل ووقت القيلولة.
– تعليم القرآن الكريم وسائر العلوم في المحاضر، وذلك بتعيين ذوي كفاءة يقومون بالمهمة.
– القيام بالخدمات العامة، كسقي الماء للشرب في المواسم المعتادة، وخدمة المقابر بإصلاح مستلزماتها، وإصلاح الطرق العامة خاصة بعد مرور السيل، والقيام بأعمال الإغاثة والنجدة بعد حدوث الكوارث الطبيعية.
– الوقوف بالمرصاد أمام الأمراض الاجتماعية الفتاكة، كالخمر والزنا، وما إلى ذلك من الكبائر، ومحاربتها بكافة الوسائل، وبهذا يُحَافَظ على مجتمع نقي من الآفات.
– مراقبة الحركات الاقتصادية في البلد وأسواقها، كالذبيحة، والدلالة (المزاد)، والكيل والمعايير، ومقاومة كل ما يظهر فيها من مخالفة للشرع كالبضائع المحرمة، والغش والتطفيف.
– السعي في الصلح بين أعضاء حبقة العزابة كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وإرشادها إلى الصواب إذا صدر منها خلل، وأما إذا صدر منها خطأ خطير، فللهيئة أن يحل المجلس وأن يستبدله بمن هو أليق.
-كيفية عمل الهيئة: لكي أستطيع أن أوضح لك أسلوب العمل في هذه الهيئة، ينبغي أن آخذ لونا من ألوان نشاطها كمثل على الأنشطة الباقية، ولنأحذ على سبيل المثال نشاط الحراسة: تجتمع إدارة الهيئة، فتقسم المدينة إلى أقسام، وكذلك تفعل بالغابة، وتسند كل منطقة إلى مركز من مراكز المؤسسة، ويحدد كذلك عدد الفرق التي تتولى الحراسة، ومجال تحرك كل فرقة بدقة، والفرقة الواحدة التي تتولى الحراسة تتكون من ثلاثة أفراد أحدهم رئيس لها، وقد اصطلح على تسمية مجموعة الحراسة بـ: فرقة الحراية، وتسمى كل مجموعة في هيئة امصوردان بلون النشاط الذي تمارسه، مثل: فرقة إطفاء الحرائق، وفرقة إغاثة الملهوفين.
و الأشخاص الثلاثة الذين يكلفون بالحراسة معان فيطلق عليهم كلمة: (رفقة)، ومعنى هذا أن الفرقة تتكون من عدد من الرفقات، ورئيس كل رفقة مسؤول عن رفقته أمام رئيس الفرقة، ورئيس الفرقة مسؤول أمام رئيس المركز الفرعي، و هذا الأخير مسؤول أمام رئيس المؤسسة الأعلى.
يجتمع العدد المكلف بحراسة المدينة كل ليلة، بعد صلاة العصر، وقبل غروب الشمس، أما الفرقة المكلفة بحراسة الغابة، فتجتمع بعد صلاة العشاء، فيلقي عليها رئيس الفرقة التعليمات اللازمة، ويحدد لها المناطق التي تلزمها حراستها تلك الليلة، ويوزع الرفقات عليها، ويزود الجميع بكلمة السر التي يتعرفون بها على بعضهم إذا اقتضت الضرورة، فينطلقون إلى القيام بمهماتهم، وعند الصباح الباكر، يعودون إلى الاجتماع في مكان يعينه لهم رئيس الفرقة من أول الليل، فيتبادلون الأخبار والأحداث والملاحظات عن وقائع ليلتهم، فيستمع إليها رئيس فرقتهم ليتخذ الإجراءات اللازمة في الليلة المقبلة.

فإذا حدث حادث في الليل كوقوع سرقة أو عدوان على مال أو عرض، فعلى الرفقة التي وقع الحادث في منطقتها، أن تعتقل الجاني، فيمسكه اثنان، ويذهب الثالث لإبلاغ رئيس الفرقة بالحادث، وإذا كان الحادث يستدعي مجموعة أكبر من الحراس، فعلى الحارس الثالث في هذه الحالة أن يذهب للاستنجاد بالرفقات المجاورة، مستعملا كلمة السر، وعندما يتم القبض على الجاني، أو الجناة، يتم تسليمهم إلى الهيئة، حيث تتخذ الإجراء اللازم حالا.

المحاكمات و العقوبات:
عندما تعتقل رفقة من الرفقات مجرمًا متلبّسًا، فإنها تقدمهم إلى المجلس، الذي يعقد اجتماعا في أسرع وقت للنظر في القضية، ولا ينفض حتى يتخذ القرار بالحكم في إطار المنهج الإسلامي، و نفذ الحكم دون تردد، ودون الرجوع إلى أي جهة أخرى.

– هدف الهيئة:
تهدف هذه المؤسسة الدينية إلى إصلاح الشباب وإلهائهم بما ينفعهم وينفع أمتهم، بدل التلهي باللهو والفساد والآفات، فهي تحول الشباب من مرضى إلى أطباء، و هذا الهدف النبيل، لازالت تعمل الهيئة من أجله إلى يومنا هذا.

مجلس العشيرة:
– العشيرة الميزابية في الحقيقة، هي عبارة عن مجموعة كبيرة جدا من الأسر، ينحدرون من جد واحد في الغالب، تربط بينها أواصر القرابة، و علاقة الرحم،  ومن مجموع العشائر تتكون القرية أو المدينة.
– لكل عشيرة دار هي ملك لها من إنشائها، تكون كبيرة نسبيا، تعقد فيها مجالس إدارتها، وحفلات أعراسها، وتستعملها المدينة أيضا في حفلاتها واجتماعاتها إذا احتاجتها.
– ولكل عشيرة أوقاف خاصة بها من أبناء العشيرة، وصندوق من تبرعاتهم لإصلاح الدار، وتجهيزها بالأثاث الذي يحتاجه أبناء العشيرة.
– لكل عشيرة مجلس خاص يتكون من حكمائها وزعمائها وذوي الرأي منهم، وللمجلس رئيس ينتخب من بينهم.

مهام مجلس العشيرة:
يعتبر مجلس العشيرة الساعد القوي لمجلس العزابة وهيئة امصوردان، وتتلخص مهامه فيما يلي:

– دراسة جميع أحوال العشيرة و دخائلها.
– دراسة جميع المشاكل التي تحدث داخل العشيرة واتخاذ الحلول لها.
– معالجة الانحرافات التي تقع من بعض أفراد العشيرة.
– التعاون مع مجلس العزابة، وإبلاغ الحالات المستعصية إليه، ليتخذ فيها قرارا منهم.
– جمع ما يفرض على العشيرة من إتاوات أو ضرائب، أو غرامات، بأساليب تتفق والمستوى الاقتصادي لكل أسرة.
– الإشراف على حفلات الأعراس بالعشيرة ومراقبتها.
– الإشراف على جمع التبرعات في حالة اللزوم.
– كفالة الفقراء واليتامى، وإلزام دفع النفقات على الأولياء، و إعطاء كل ذي حق حقه من أفراد العشيرة.
– فض الخصومات العائلية، حيث لا يترك المجلس قضية تصل القضاء والمحاكم.

– التبرئة (الإجراء التأديبي لدى العزّابة):
إن من أهم الأحكام التي تكسب الميزابيين صفة التمسك بالدين، حكم البراءة، والذي يعرف في أوساط العامة من الميزابيين: ”التَّبْــرِيـــَّتْ”، والتبرئة هي السلاح القوي الذي تعتمد عليه مجلس العزّابة لطاعة أوامرها الصارمة، وردع الفاسقين.

البراءة هي التطبيق العملي لقاعدة الولاية والبراءة في الإسلام، وعندما يثبت على شخص ما ارتكاب معصية تعلن منه البراءة، وستجد تعريفا مفصلا عنها في صفحة: مذهبنا. و أما في ميزاب، فالعزابة يعلنون البراءة من الشخص المقترف للكبيرة أو ما شابهها، في المسجد أمام العامة ولا تنتهي إلا بتوبة الفاعل.
– يصدر حكم البراءة على شخص ما في ميزاب، إذا ثبت قطعيا أنه خالف أمرا من أوامر العزابة، أو اقترف كبيرة أو جريمة ما كمنع حق زوجة أو يتيم، أو تمرد عن العشيرة في حق، أو طعن في دين الإسلام، أو نزع الحجاب (التبرّج) بالنسبة للمرأة، أو ارتداء لباس فاحش يظهر المفاتن، أو ارتكاب ماهو خارج عن تعاليم الأعراس الميزابية، أو إقامة عادات الغربيين كأعياد الميلاد للأطفال أو الكبار، أو ارتكاب فاحشة كشرب خمر أو تدخين، أو مخدرات، أو ترك صلاة (وتاركها كافر).
– شروط إصدار الحكم: يجب أن يثبت قطعيا بدلائل لدى العزابة أن فلانا قد ارتكب الجريمة الفلانية مع وجود شهود عدل، ودلائل، حتى يصدر الحكم.

4- طريقة إصدار حكم البراءة: يعلن عن ذلك بعد صلاة الجماعة، بأن يقوم مكلف من العزابة، ويعلن للناس أن فلانا بن فلان، قد ارتكب جريمة كذا أو كذا فهو في براءة المسلمين إلى أن يتوب.
– عندما تُعلن التبرئة من أحد، فإنه يُحرم من حقوقه المدنية ما لم يُعف عنه، فلا يؤاكل ولا يُشارب، ولا يُجالس ولا يُكلّم, ولا يُشَارك في مَأتم ولا فرح، ولاتقبل دلالته في السوق (المزاد)، ولا ذبيحته إن كان جزّارا، ويبقى منبوذا من ذويه وأخلّائه وحتى من عائلته، فيجد نقسه معزولا من المجتمع تماما فيضطر إلى التوبة، لتعود إليه مكانته ويستطيع أن يعيش بين المسلمين كواحد منهم, عند ذلك يعلن العفو عنه في المسجد أمام العامة.
– إذا تعامل أحد مع المتبَرّإ منه، وهو يعرف ذلك، فحكمه حكم رفيقه.
– لجأ العزّابة إلى نظام التبرئة لأن حكم البراءة حكم إسلامي، موجود منذ عهد الرسول (ص) مثلما فعل (ص) مع الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، وهو الوسيلة الوحيدة لدى العزابة، التي يستطيعون بها قمع العصاة والمجرمين واحترام سلطتها لدى العامة، وهي وسيلة فعّالة ربما أكثر من التعذيب والسجن، و ما شابه ذلك.
المجلس الديني النسائي:
هي هيئة نسائية تعتني بالأمور الدينية للنساء، التي لا يمكن للرجال أن يباشروها، وهي تشكل الساعد الأيمن لمجلس العزابة بالنسبة للنساء.

مهام المجلس:
– غسل الأموات من النساء
– تحقيق حكم البلوغ وشؤون الولادة والحمل وبيان أحكام الحيض والنفاس للنساء.
– إقامة الصلح بين المتخاصمات وبين العائلات
– محاربة البدع بين النساء وإعلان البراءة على من يتمرد منهن.
ولهذه الهيئات في كل ميزاب بيوت خاصة خلف المساجد، ولهن فيها مصلى يسع كل نساء البلد تقريبا، يقمن بها الجلسات السرية الخاصة، كما أن المصلى مباح للنساء الصلاة فيه وكذا استماع الوعظ والإرشاد وتلاوة الذكر الحكيم بواسطة مكبرات الصوت.
ولهن في البلد ديار لتعليم البنات فروضهن الدينية حتى ينشأن على الحصانة الدينية، وكل ذلك خالصا لوجه الواحد الكريم، وكذا ينتدبن لهن من يعلمهن الصناعة التقليدية وإدارة الشؤون المنزلية. هذا علاوة على مدارس المدينة القرآنية للبنات.

ديار العرش:
اتخذ الميزابيون في كل بلدة يكثر اليها ذهابهم من غير مدن ميزاب دارا لنزول مسافريهم مجانا يطلق عليها دار العرش، فيها قاعة للصلاة، وهي مجهزة بمرافق ووسائل الطهارة، وكما اتخذو مقبرة لدفن موتاهم في مكان فسيح، يصلح لاجتماعاتهم العامة، لاسيما أيام الأفراح والمناسبات.
كما تضم هذه الديار مدارس دينية قرآنية تتولى القيام بمهام تربية النشأ الميزابي، وتضع على عاتقها مهام جمة منها:
– تحفيظ القرآن الكريم للصغار والكبار عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: (علمو أولادكم القرآن فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو).
– تدريس علوم الدين من فقه وتربية إسلامية وحديث
– العمل على تعريف التلاميذ بتاريخهم العتيق، عن طريق تدريس التاريخ الإسلامي كمادة أساسية.
– القيام برحلات ترفيهية بين الفينة والأخرى خاصة في الأعياد.
– العمل على تنمية المواهب التي يمتلكها التلاميذ بواسطة إقامة نشاطات كل 15يوم تقريبا، وتتعدد هذه النشاطات منها المسرح، النشيد الاسلامي، البحوث المختلفة.
– كما تراعي هذه المدارس تعليق مجلة شهرية، يشارك فيها مجموعة من التلاميذ كل مرة، وتتضمن مقالات مفيدة، أشعار معلومات يجدونها هامة.
– إقامة حفلات ختامية في كل آخر سنة دراسية يكرّم فيها التلاميذ بحضور أوليائهم، وقد كان -ولا يزال- لهذه المدارس الدور العظيم والأثر البارز في نفوس النشأ والشباب لما تقوم به من جهود حفاظا على الدين الإسلامي من الضياع وتكريسا لأصول العمل الجماعي، الذي تتميز به هذه المدارس.

لا أحد يدّعي بأن المجتمع المزابي مجتمع ملائكي، بل هناك العديد من الآفات التي يجتهد المصلحون المخلصون ليل نهار لأجل إصلاحها وتخليص أصحابها منها، ولا يمكن  القول بأن المجتمعات الأخرى -قريبة كانت أو بعيدة- لا خير فيها، معاذ الله! فالخير والشر موجودان في كل مكان.*


مقال منشور في موقع الإشتراكي نت بتاريخ: 27 جويلية 2010م. للكاتب: أحمد صالح الفقيه.

*منشور في الفايسبوك

Tags: حضارة, قالوا عن مزاب