نظام حَلَقَة العَزَّابَة
حلقة العزّابة من أهم و أعلى و أشهر الهيئات الدينية و السياسية بمزاب , و المكونون لهذه الحلقة يعرفون في أوساط العامة من الميزابيين باسم : إِعَزَّابَنْ , و الواحد منهم يسمى : أَعَزَّابْ , و هم يمثلون العلماء و الأئمة و أهل الرأي و المشورة من الشعب , و تقوم الحلقة بالإشراف الكامل على شؤون المجتمع الإباضي الدينية و التعليمية و الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية , وكلمة ’’ العزّابة ’’ مشتقة من العزوب , عزب عن الشيء , أي بعد و غاب و خفي و اعتزل, و المقصود هنا بالعزلة, التصوف و الانقطاع إلى العبادة و خدمة المصلحة العامة, و يستعمل العزَّابة , النظام الإسلامي القائم على الشورى.
1- تأسيسها :
كانت السلطة في المجتمع المزابي أول الأمر بأيدي رؤساء العشائر , ثم تحول مركز السلطة في القرية إلى الهيئة الدينية , ثم تنقلت إلى حلقة العزابة التي رتيها الشيخ أبو عبد الله محمد الفرسطائي .
و لم تكن لهذه الحلقة في بادئ الأمر أي سلطة على المجتمع , ولم يكن هدف الشيخ إخضاع المجتمع الإباضي المزابي لحلقته .
فقد نظمها هو و تلميذاه : أبو الربيع سليمان بن يخلف و أبو الخطاب عبد السلام منصور بن وزجون , و لم تكن إلا هيئة تربوية تعليمية , بعيدة عن السلطة و السياسة , هدفها الوحيد نشر الإسلام و الدعوة إلى اعتناق المذهب الإباضي , و تطبيق ميادئه ميدانيا , ولم يكن لها مقر دائم , ولم تكن تعقد حلقات التدريس في مساجد القرى , بل كانت تعقدها سرا بعيدا عن العمران.و لكن هذا النظام لم يبق على ماسطره الإمام أبو عبد الله و تلاميذه و إنما تطور مع الزمن , فكانت تضاف إليه من حين لآخر صلاحيات جديدة , وقد بقيت هذه الحلقات تعقد سرا , ولم يستعمل المسجد لهذا الغرض إلا في النصف الأول من القرن السادس هـ.و بعد مرور زمن تصدرت حلقة العزابة أمرها بمفهومها الشائع عند الميزابيين كسلطة عليا مطلقة قائمة مقام الإمامة العظمى.
2- ظروف تأسيسها :
بعد سقوط الدولة الرستمية , قامت الدولة الفاطمية الشيعية , و أدرك المزابيون الإباضيون أنه يستحيل قيام أو تحقيق إمامة إسلامية قائمة على العدل و الحق و الشورى , لأن الشيعة ( في ذلك الوقت ) كفار مشركون , يعتبرون الملك معصوما و يرفعونه إلى درجة الألوهية , و أحسن دليل على ذلك ما قاله الشاعر ابن هاني في مدح المعز لدين الله الفاطمي :
ما شِئت لا ماشاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
و كأنما أنت النبي محمد و كأنما أنصارك الأنصار
و في هذه الظروف من الحكم فكر المزابيون الإباضيون في نظام العزابة كنظام حكم داخلي عادل , منفصل عن الحكم الشيعي الجائر في ذلك الوقت.
3- أعضاء الحلقة:
لحلقة العزّابة حق اختيار أعضائها دون أدنى مداخلة من غيرها , حيث يُختار من كل عشيرة أعلم و أورع و أصلح من في العشيرة , بشرط أن يكونوا متخرجين من دار التلاميذ ( جمعية الشباب و الحراس) إرْوَانْ , فإذا لم يوجد , فإنه يختار من أصحاب المحاضر ( إمصوردا) .
تتألف حلقة العزّابة من اثني عشر عضوا : الإمام , و المؤذن , و ثلاثة لتحفيظ القرآن للصبيان في المحاضر , وخمسة لغسل الموتى , ووكيلان على مال المسجد (بيت المال). و هذا الأخير , لا يجب أن يكون له مال كثير و لا أولاد كثيرون , بل يجب أن يكون بينهما.
4- شروط الإلتحاق بالحلَقة :
يجب أن تتوفر في عضو العزابة الشروط التالية:
- أن يكون بالغا مسلمًا , ذا أخلاق فاضلة و علم بالدين و الفقه و الفتوى.
- أن يكون حافظا لكتاب الله تعالى .
- أن يكون متزوجا , لأن الزواج يحصن النفس.
- أن يكون صاحب عمل أو حرفة , فأعضاء العزابة لا يتقاضون أي أجر , إنما عملهم خالص لوجه الله , وكلهم يعتمدون في قوتهم على كد يمينهم.
5- مهام الحلقة :
ا- المهام الدينية ( السلطة الدينية) :
تتولى العزابة اصدار الفتاوى , و فض الخصوم , إذ أن الميزابيين , لا يلجؤون في أكثر الأحيان , إلى المحكمة في خصوماتهم , و مراقبة الذبح , و اصدار حكم البراءة , و تعليم القرآن , و تعليم الصلاة للبالغين الجدد , وكل مايتعلق بالدين من بعيد أو قريب , و الحقيقة أن العزابة في أوساط العامة من الميزابيين , لاتعرف إلا بالجانب الديني.
و في رحاب المساجد الميزابية , تزدهر حلقات العلم في شتّى الفنون , وتدوي بأصوات الوعظ و التذكير و التكبير و تتلى آيات الله البينات من الذكر الحكيم يوميا, كل ذلك تحت إشراف تام من العزابة .
ب-المهام التشريعية ,السلطة التشريعية (مجلس عمي سعيد) :
مجلس عمي سعيد (1)هو الهيئة التشريعية , يتركب أعضاءه من قضاة البلاد و علمائها , و يختارهم عزابة المدن من بينهم , و يعتبر أعلى سلطة دينية و اجتماعية , في وادي ميزاب كله , و رئيسه يسمى شيخ البلد , وهو بمثابة الرئيس , تعقد جلسة هذا المجلس كل ثلاثة أشهر , و يدرس فيه الوضع السائد في ميزاب , و هذا المجلس يضع القوانين و الأحكام القضائية في الجرائم و الجنايات و المعاملات ضمن الفقه الإسلامي , و هو يعتبر من حلقات العزابة لأنه مكون منهم , لكنه لايختص بمدينة أو بأخرى , لكنه يشمل ميزاب كافة , و مجموعة قوانينه المدونة تعرف باتفاقات و ادي ميزاب , كما أن هذا المجلس هو الذي يحدد الأكيال و المعايير و الموازين المستعملة في الأسواق بحيث لا يجوز التعامل بغيرها من المعايير, و من يخالف أحد هذه القوانين من الميزابيين في أي مكان و ليس فقط في وادي ميزاب , فإنه يتعرض لحكم البراءة الآتي ذكره.
ج- المهام الإقتصادية ( السلطة الإقتصادية ) :
ترعى الحَلَقَة حياة الأسر الإقتصادية , و هي المسؤولة عن توزيع الزكاة , و لا تدفع الزكاة لأحد إلا إذا تحققت أنه مستحق حقا , و أنه مؤد لكل شعائره الدينية من صلاة و طهارة و صوم , كما أنها تشرف على نفقات الزواج و تحديد المهور , و النفقات في الكفالة و الحضانة , و تقديم الأمناء على الأيامى و اليتامى ,بحيث لا يجد الأغنياء منطلقا لحرياتهم في التغالي بالمهور و النفقات على الطبقة الوسطى أو الفقيرة في الأمة , فحرياتهم مقيدة , و لا يجد الفقير الراغب في الزواج تحرجا في تحمل مؤونة زواجه .
كما تشرف هيئة العزابة على الأسواق العامة في مدن ميزاب , ولها فيها مقاعد خاصة محترمة, تجلس عليها للإشراف على الواردات و السلع المجلوبة و استقبال القوافل من أطراف الصحراء (قديما), و مراقبة الأسعار, وكان رئيس العزّابة هو الذي يعلن عن افتتاح السوق بواسطة المنادي , بعد التكبير و البسملة و التهليل و الصلاة على رسول الله (ص) .فإن وقع تنازع أو مشادة في المعاملات بالسوق , فإن العزابة يتولون الفصل و الحكم في الأمر.
6- بعض الحالات الشاذة :
ا - تمرد العامة :
في حالة ما إذا تمردت العامة على أمر من أوامر العزابة , فإن أعضاء العزّابة , يبقون في دورهم و يتركون المسجد , فلا آذان و لا إقامة و لا صلاة جماعة , و في هذا الموقف تفزع العامة و ترتجف , و توفد إليهم وفدا طالبة إليهم العفو , و تعرف هذه الصورة بإغلاق المسجد , ولاتكون إلا نادرا , أو في أمور خطيرة.
ب- الخلاف بين الأعضاء :
في حال ما إذا حدث خلاف و تنازع و تشتت بين العزّابة أو صدر من الحلقة خطأ خطير , تقوم هيئة : امصوودان بالإتصال بأعضاء العزابة و تحاول إقناع المخطئ بالحسنى , فإذا تعذر ذلك , فإنهم يعقدون مجلسا طارئا جدا , و يبحثون موضوع قلب النظام ( العزابة ) , فإذا اتفق على اتخاذ هذا القرار سبعون منهم , فإن قرار قلب النظام يكون نافذا .
و أول خطوة يقومون بها هو تعيين أعضاء جدد لمجلس العزّابة , و في الليلة التي يريدون فيها تنفيذ العملية , يطوقون المسجد بحراسة مشددة , ثم يحضرون العزّابة الجدد , فيسلمون لكل واحد منهم عمله , وذلك قبل الفجر , و يمنع العزابة القدامى من دخول المسجد ثلاثة أيام حتى تهدأ الأوضاع.