قراءة في رواية تواجات دوباجو
بقلم الأستاذة: زينب شلاط
إنّ ميلاد تواجات دوباجو بمنطقة مزاب جاء في ظروف جدّ مميّزة، سواء من حيث المعطى اللّغوي والثّقافي، أو من حيث الجانب السّياسي والأيديولوجيّ، ما جعل منه محطّ اهتمام من قبل القرّاء والباحثين ودراسة وتحليل من قبل النقّاد، ولعلّ هذا ما أرادته آمال بن عبد الله من خلال تواجات دوباجو ، إذ أمتعتنا هذه المرّة بجنس أدبيّ لم نعهده سابقا في الأدب المزابيّ، فهو بمثابة تحدّي تُثبت لنا من خلاله أنّ للمزابيّة نصيب من الكتابة الرّوائيّة المعاصرة، وتؤكّد مدى اهتمامها بفكرة تعلّم وتعليم اللّسان المزابيّ من خلال الرّواية.
يُعتبر الغلاف العتبة الأولى للقارئ، إذ وُفّقت الكاتبة في اختيار صورة واقعيّة مركّبة من صورة لفتاة حقيقيّة متوسطة العمر والقامة بلباس وحليّ تقليديّ، شامخة كالصّومعة الموجودة خلفها، تحيط بها بيوت لقصر بريّان وكأنّها أُخذت من ألبوم صور قديم لأجدادها، وجاء العنوان في الواجهة باللّون الأحمر بالكتابة العربية ومن الأسفل بالتّفيناغ باللّون الأسود للجزء المكتوب بالعربية والشيء نفسه من الجهة الخلفية للكتاب، إذ جاء العنوان باللّاتينيّة والتّفيناغ كذلك؛ هذا ولأنّ الرّواية مقسّمة إلى جزء مكتوب بالعربيّة والآخر باللّاتينيّة، فقد يكون دافعًا لتعلم وقراءة اللّسان المزابيّ بالحرفين العربيّ واللّاتينيّ، وبالتّيفيناغ مستقبلا ولِمَ لا !!
اعتمدت الكاتبة التّقسيم الذي عهدناه لها في رواياتها، إذ يتصدّر كلّ جزء منها عنوان يختصر فحوى ذلك الجزء وذلك كلّه في 242 صفحة، واعتمدت شرحًا للكلمات الصّعبة في آخر الرّواية؛ كقاموس شامل يمكننا العودة إليه متى شئنا.
تدور أحداث الرّواية في واد مزاب، وفي قصر بريان بالتّحديد، إذ عرّفت القارئ بأسماء شوارعها وأماكنها (تامجيدا ن ومان ـــ بربورة ـــ بوطارة..)، وزوايا بيوتها (باجو، الحوجرت، تيغرغرت..)، وشخصيّات من واقعها (الشّيخ بكير..)، فهي بيئة صحروايّة تلعب دورا مهمّا في تأثير الأحداث، وكأنّ الكاتبة تفتح لنا نافذة صغيرة نطلّ من خلالها على الأصالة والموروث العريق للمنطقة، فجاءت متضمّنة للعديد من المواضيع من بينها: التّفاؤل بالمستقبل، الأمل، الإصرار، المسؤوليّة الاجتماعيّة...، مع إيصال رسائل عميقة بشيء من الخيال؛ إذ تثير الرّواية المشاعر والأفكار لدى القارئ وتدفعه إلى التّفكير في القضايا المطروحة، فقد عادت بنا لأحداث العشريّة السّوداء؛ السّنة التي توفّي فيها الشّيخ بكير أرشوم وحادثة القنبلة التي انفجرت في حافلة في الجزائر العاصمة سنة 1997م، فهو اختيار موفق يتماشى والزّمن الذي بنيت عليه الرّواية.
مازالت آمال تكتب بنَفَس باية التي كتبت الرّسائل لجدّتها المتوفيّة، ولكن هذه المرّة تكتبها تواجات لوالديها المتوفيّين بصوت الطّفولة والبراءة، بلغتها المحليّة المثقلة بالمعاني والأمثال والحكم التي تصبّ في المعنى الحقيقي للرّواية، فما معنى تواجات ياترى ومن تكون؟
تواجات نوع من النّخل، فتاة فائقة الجمال، مليحة الوجه كأنّ الملح يشعّ منه، وهي ابنة وليّ صالح من آت مليشت - أحد قصور مزاب - تحكي عنها النّساء في جلسة ألاّون ويذكرنها في الدّعاء، سافر والدها لمدن التلّ وتركها وحيدة لسنوات، كانت تترقّب عودته في شغف، وفي الوقت نفسه كانت ترنو إلى فارس أحلامها وتدعو الله أن يضمخّ الأرض بماء الغيث بعد أن دبّ فيها القحط فاستجاب الله لدعائها وما نوت في قلبها، تهاطلت مياه الأودية فارتوت الأجنة وعاد والدها من الغربة وحقّقت حلمها بلقاء فارسها، وبقيت قصّة هذه الفتاة خالدة تردّد بين ألسنة النّساء كرمز لليمن والفأل الحسن، حظّها في ناصيتها، تنال كلّ ماترجوه.
إنّ شخصيّة تواجات في مضمون الرّواية اسم على مسمّى؛ إذ أخذت من الاسم نصيبها، فهي فتاة جميلة مفعمة بالحياة، فضولية، لا تتعب من قولي كيف؟ ولماذا؟ بلغت من النّضج ما لم يبلغه أقرانها، متفوقة في دراستها، ذكية في مواجهتها لتحديات الحياة، تعتبر شخصيّة رئيسية، فالرّواية محكيّة من منظورها ممّا يسمح بتوجيه القارئ بشكل مباشر نحو رؤيتها وتجاربها الشّخصيّة، أمّا شخصيّة باجو - المكان الذي تخزن فيه التمور طوال السّنة- الذي يشارك تواجات تفاصيل يومها منذ اليوم الذي أصبح يحادثها وتحادثه، فهو الملاذ الآمن، والمخبأ السّريّ لجميع أسرارها، كيف لا وهو الذي لم يبخل عليها يومًا بحكمته وحنكته، فالعلاقة التي تربط تواجات بمربد التمر باجو علاقة متينة؛ تحمل معنى العودة إلى الأصل والأرض الأم والمكان الذي نعيش ونحيا من خلاله، كما لم تغفل الكاتبة أيضا على أن تقف مطوّلاً لدى نساء لهنّ تاريخ عريق في بريّان، منها لالاّك منّا ن الحاج التي سهرت على تعليم فتيات البلدة أمور الصّلاة والطّهارة والعقيدة، وكذلك لالاّ عيشوبا ن دادّي المسماة (مامّا بوطا) ولاّدة البلدة؛ كشخصية روائية تذكرنا بالولادة عائشة دادّي عدّون لتبيّن لنا دور وفضل المرأة في واد مزاب منذ القِدم، كما رسمت لنا صورة عن جدّاتنا من خلال جدّة تواجات – مامّا حنّة – التي لا تعرف للكسل والنّوم معنًى، الحريصة على أمر أولادها وأحفادها ولمّ شمل عائلتها، وجدّها – بابّا حنّي – الذي لا تهزّه النوائب، الحريص على أمر عشيرته وبلدته كما يهتمّ لأمر عائلته.
أمّا باقي الشّخصيات فتمّ تطويرها بشكل ديناميكيّ عبر الرّواية، حيث تتغيّر مواقفهم وآراؤهم بناء على الأحداث والتّفاعلات، إذ تتحرّك الشّخصيّات بواسطة الرّغبات الشخصيّة والصّراعات الدّاخليّة، مما يدفعها إلى اتّخاذ القرارات الحاسمة.
وقد نتوقف فجأة عند ما يسمّى بـ نوستالجيا ؛ وذلك بالحنين إلى الماضي والطّفولة من خلال الأحداث والحوارات التي دارت بين تواجات وابنة عمّها شَاشَا التي تذكّرنا بالحوارات التي شهدناها في واقعنا وطفولتنا مع غيرنا، إذ فتحت الكاتبة مُتنّفسًا للقارئ من خلالها.
تجلّت في الرّواية ظاهرة نقديّة معاصرة واضحة تدعى التّضمين ، إذ تضمّنت الرّواية لأساطير وقصص من التّراث (المرأة التي تعهّدت للقطة)، وشعرا لشعراء من مزاب (عادل مزاب، عبد الوهاب فخّار، عمر داودي)، فكانت خادمة للسّياق العام للرّواية.
إلى جانب النّثر كتبت الكاتبة سطورا من الشّعر، صدّرت لنا ما خبّأته في جعبتها، وهو ما ألفنا رؤيته في أعمالها الأدبيّة السّابقة، إذ تتزواج بين الكتابة النّثرية والشّعرية، ولكن هذه المرة بلغتها المحليّة المزابيّة، وإنّه لدليل على احتكاكها بالباحثين والمهتمّين بتراث الأجداد.
أحيّي الكاتبة في الأخير التي زرعت حبّا واهتمامًا بإبداعها وإتقانها للّسان المزابيّ، فحصدت في الأخير تواجات دوباجو ، مبارك لها ومبارك لنا جميعا، تمنيّاتي لها بالتّوفيق في منافسة أجود الأقلام الأمازيغيّة، كما أدعو الحركة النّقديّة بواد مزاب أن توازي الحركة الإبداعيّة الرّوائيّة من منطلقها، ونأمل أن تتاح الإمكانيّات الضّروريّة لتطوير الأمازيغيّة على كافة الأصعدة، لاسيما مجال التّأليف، وما يصاحبها ذلك من التّكفّل بنشر وتوزيع المؤلّفات الأمازيغيّة خاصّة الأعمال الرّوائيّة منها، إذ تشكّل خطابا روائيّا معاصرًا يستحقّ الاهتمام به.
بقلم الأستاذة: زينب شلاط
بريان 10/07/2024