موسى يَفطر

Icon 07موسى بن قاسم عمر أيُّوب

رجل صنعته الحياة، فصنع الحياة 

موسى بن قاسم عمر أيُّوب أو موسى يَفطر الاسم الذي اشتهر به في البلدة، وبه يناديه كلُّ من يعرفه، وهو راضٍ بهذه الشهرة، ولا يعترض أبدا على من يناديه بها.

ولدَ بمدينة بريان العامرة سنة 1929م، من ولاية غرداية الجزائر. لقَّنه الشيخ الحاج موسى موسلمال (رحمه الله) بالكتَّاب ما تيسَّر من الآيات من القرآن الكريم، علَّقها حلقة في أذنيه، وثبَّتها ضِرسا في فيه، وغرسَها عَلَقةً في أعماق فؤاده، فكانت له الزادَ، والرُفقةَ، والـمَـعْــلَم، في حِلِّه وتِرحالِه، وليلهِ ونهاره، وحركته وسكونه.

وتدرَّج في معترك الحياة العمليَّة رفيقا لوالده (يرحمه الله) بين الأجنَّة والحقول بمسقطِ رأسهِ، فلاَّحا يرعى النخلةَ فسيلةً، ويغازلها بحسن الرعاية جبَّارة، ويعانقها نخلة ثلاث مرَّات من عامٍ. ومن أجلها شفط البئر، ليسقي الشجر، وقلَّم الأغصان ليُجلي الكدَر، وغرس الورد ليأتي المطر، وأنبتَ الخير عندما رمى البذر؛ أوَّل نهاره السحَر، وآخره السهر تحت ضياء القمر، فأكل من فضله الإنسانُ في الكِبر، كما الغِلمانُ في الصغَر.

وفي تمام العقدِ الأوَّل من عمره، أخرجته الحاجة من بلدته، ليعمل في التجارة بمدينة قسنطينة، ولكنَّ المدينة العتيقة، والمتجر رغم سعته، كانا له كالقفص للطير أمام ما كان فيه من سَعة الأرضِ، وبُعد الأفق، وعلوِّ السماء، ونقاء البدر، ودفء الشمس، فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فعاد كالطير إلى وكره بعد ثلاث سنوات من الابتعاد، أو الابعاد.

عاد العصفور، وهو ابن ثلاثة عشر سنة إلى ربضه وحيِّه، ليواصلَ سيره في دروب حياته، تحتَ ظلِّ والده وكنفه وأستاذيته.

نعم، أستاذية والده في الفلاحة حرفةً، وتجربة، وخبرة، إضافة إلى الحراسة الليلية في البلدة، واليقظة المسؤولة بالنهار؛ فحفظَ عينَه عن النار بالحراسة في سبيل الله، -"عينان لا تمسُّهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرسُ في سبيل الله"- وعاش يقظَ الفكر، نبيهَ العقل، يحفظ ويخزِّن ويخلِّد كلَّ شاردة وواردة يقعُ عليها بصره، أو تقع في أذنه، حتَّى أصبح مع الأيَّام والسنين سِفرا يجمع تاريخا، ويحفظ مجدا، ويضمُّ بين جنبيه إرثا وذكرا لبني جلدته ووطنه.

ورافق إلى خارج البلدة سُوَّاق الشاحنات (graisseur) من الناقلين التجار، فكان سيِّدَ القوم بالخدمة المخلصة، والنشاط الدائم، وأخذ من السفر فوائدَه العشَرة، ومن رُفقته لرفاقة في شركتَي بوكامل، وباسليمان ما جعله حذِرًا من الخِبِّ فلا يغلبه.

وبعد الحِلِّ والترحال، ومع اقتراب الاستقلال، استقرَّ به الحال في بلدته العزيزة، مسقط رأسه بريان الجميلة، لزم هارون اليهودي، وابنَ جِلدته بابهون بعوشي، الحرفيَّان الخبيران في الحدادة التقليدية القديمة، وما يتَّصل بها من أعمال فنِّية أخرى، فتعلَّم منهما الكيَّ بالنار، والنفخ في الكير، وتذويب النحاس والحديد، لصناعة الجديد من الأغراض والأواني، وحفظ القديم منها بإعادة الحياة إليها، وتمديد عمرها بالصيانة وتجديد لونها.

فتعلَّم منهما الصنعة وأسرارها، وأخذ منهما اللمسة الفنِّية وجمالها، والكلمة الطيِّبة وآثارها، والموعد الصادق والوفاء به.

وكان الوريث الوحيد للحرفيِّ اليهودي هارون في تخصِّصه عندما غادر الوطن بعد الاستقلال كسائر بني جلدته من اليهود، فأصبح الأوَّلَ والوحيدَ بهذا التخصُّص في البلدة بعد الاستقلال، والوجهة الوحيدة للمواطنين لصيانة الأواني المنزلية وتصليحها، وتجديد لون النحاسية منها (أَقَزْدَرْ)، وكانت حرفته رائجة مربحة له آنذاك.

وإلى جانب ذلك كانت له هوايات عديدة جميلة، مفيدة للمجتمع والبلدة، دفعته ليكون في واجهة المشاهد الاحتفالية المختلفة للبلدة، نعرف منها على الأقلِّ:

Icon 07

ولعهُ الكبير برائحة البارود، ومصاحبته -تبعا لذلك- رجالَ وشيوخ الفرق الفلكلورية العرفية، فتعلَّم منهم إطلاق البارود، وملاعبة القربيلا، والرقص بها في الاحتفاليات العامَّة المختلفة؛ ولإتقانه وتحكُّمه في العمليَّة، إلى جانب استقامته وصلاحه وروحه الاجتماعية، عيَّنته الهيئة الدينية (حلقة العزَّابة) موظَّفا معلنًا بالبارود -كما عَــرفُ البلاد- للإمساك والإفطار، وحلول الأعياد، وقدوم السيول إلى البلدة، بمسجدِ حيِّ كاف حمُّودة.

- وحبُّه وولعه بهذه الهواية، جعلت منه أحد المؤسِّسين "للجمعيَّة الرستميَّة للزرنة والبارود"، في الستِّينيَّات من القرن الماضي؛ ثمَّ جمعية "إِمنَّايَنْ" للفلكلور خلال سبعينيَّات من القرن الماضي.

- الحضور الدائم لعمليَّات البيع والشراء بالسوق العتيقة في البلدة، التي تجري بالمزاد العلني (أَدْلاَلَتْ) إلى عهد قريب، وبالحضور الدائم وتقدُّمه المشهد، واقترابه من الممارسين الأوائل وشيوخهم أصبح أحدَ الدلاَّلين، ثمَّ ارتقى إلى المراتب الأولى من فريق الدلاَّلين، حتَّى أصبح هو الذي يعلنُ عن افتتاح السوق بالنصِّ العرفي أو الورد الموروث عن الأجداد، وهو ما يسمُّونه أَفَتْشِي نَ سُّوقْ:

-"يَا وَحْدُو الله، يَا وَحْدُو الله، يَا وَحْدُو الله

يَا مَن يَسْتَفْتَحْ يَرْبَحْ

مَنْ شْرَا يَرْبَحْ

إِيَّـاتْ سُّوقْ، إِيَّاتْ سُّوقْ"-

حفظ الله السيِّد الفاضل: موسى بن قاسم عمر أيُّوب، لا يزال متواجدًا في السوق، في نفس المحلِّ الذي بدأ فيه العمل منذ السبعينيات من القرن الماضي وصار بعد ذلك ملكًا له، يستعرض ذكرياته في السوق كان يتوسَّطه في حفلات فلكلورية خالدة، احتفالا بالأعياد الوطنية، والمناسبات الاجتماعية الجميلة، ويستذكر الجولات المتواصلة التواصلية بين البائع والشاري، فيبكي على السوق المهجور من أجيال اليوم، وغياب مظاهر الفرح والاحتفال التي كانت تجمع أبناء البلدة بكلِّ أطيافها، ولا تزال دموعه تجري على خدَّيه أسفا وحزنا على حال السوق، إلاَّ أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، أو تدبَّ الحياة في أقواس وجدران وأحجار السوق.

وهو مرابط أيضا بتواجده الدائم هناك في السوق، بين محلِّه، ومركز اليقظة اليقظِ جدًّا (مشكورا) بالسوق دائما، يستقبل في محلِّه أصدقاءه ورفاق دربه، المتشوِّقين إلى تلك الذكريات الجميلة التي أدَّوا أدوارا فيها، أو كانوا من الشاهدين عليها، كما يستقبل زوَّار البلدة من السياح الجزائريين أو الأجانب فيقدِّم لهم شيئا مشرِّفا عن البلدة وتاريخها وتراثها.

بقلم يوسف بن يحي الواهج

المصدر: nour-elkalam

Tags: تأريخ, الجزائر, جغرافيا